22 May، 2025
عالمية

رحلة في عقل ترمب (3) خيوط العنكبوت: من يهمس في أذن الرئيس؟

  • يناير 1, 1970
  • 1 min read
رحلة في عقل ترمب (3) خيوط العنكبوت: من يهمس في أذن الرئيس؟

في دهاليز السياسة الأميركية، حيث تتشابك المصالح وتتقاطع الأجندات، يبرز دونالد ترمب ظاهرةً فريدةً. فالرجل الذي عاد إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات من الغياب بات محوراً لشبكة معقدة من دوائر التأثير، يتداخل فيها الشخصي مع السياسي، والمالي مع الإعلامي، والجماهيري مع الآيديولوجي. ترمب ليس رئيساً تقليدياً، بل مشروعاً سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، يجمع بين المال والسلطة والإعلام في توليفة تجذب حولها شبكة معقدة من خيوط النفوذ تجتمع كلها تحت شعار واحد: «اجعل أميركا عظيمة مجدداً».

في فترة ترمب الأولى، شهدت الإدارة تغييرات متكررة في المناصب الرئيسية بسبب خلافات جوهرية وصدام علني مع مسؤولين من التيار التقليدي. أما في الفترة الثانية، فنلاحظ توجهاً نحو تماسك أكبر، محوره الآيديولوجيا المشتركة، واختيار للشخصيات مبني على الولاءات أولاً.

خيوط دائرية يحيكها بصمت عنكبوت الحُكم في البيت الأبيض، تترجم إلى سياسات وقرارات يستشعر وقعَ تحركاتها العالمُ أجمع. وهنا يبرز التساؤل: ما الدوائر التي تعمل وراء الكواليس لتصوغ القرارات، ومن يملك الجرأة والنفوذ ليهمس في أذن الرئيس؟

الدائرة الأولى: العائلة… الحصن المنيع

في سابقة تختلف عن نهج الرؤساء السابقين، اختار ترمب منذ فترته الأولى دمج عائلته في صميم منظومة الحكم. وفي فترته الثانية، تستمر هذه الظاهرة وإن كانت بشكل مختلف. فبينما ابتعدت إيفانكا ترمب وزوجها جاريد كوشنر نسبياً عن الواجهة، برز دونالد ترمب جونيور مستشاراً غير رسمي في قضايا الطاقة والبيئة ولارا ترمب تولت منصباً قيادياً في اللجنة الوطنية الحزبية، لتعزز سيطرة العائلة على الحزب الجمهوري.

وحتى جاريد كوشنر، رغم عدم توليه منصباً رسمياً، يستمر في التأثير على قرارات السياسة الخارجية، خاصة في ملفات الشرق الأوسط، مستفيداً من شبكة علاقاته التي بناها خلال الفترة الأولى.

أما بارون ترمب، الابن الصامت الذي كبر بعيداً عن الأضواء، فقد فاجأ الجميع بمشاركته المؤثرة في الحملة الانتخابية، خاصة في استراتيجيات استهداف الجيل الجديد عبر «البودكاست». وكأن العائلة كلها تتحول تدريجياً إلى غرفة عمليات بديلة للبيت الأبيض.

الدائرة الثانية: مهندسو مشروع 2025… الآيديولوجيا في السلطة

في مفارقة سياسية لافتة، نجد أن ترمب الذي أنكر خلال حملته الانتخابية أي صلة «بمشروع 2025»، ووصفه بأنه «سخيف وبائس»، وهو مبادرة سياسية نشرتها مؤسسة «هيرتدج» تهدف لتغيير واسع النطاق في كل جوانب السلطة، إلا أنه عاد ليعين مؤلفي ومؤثري هذا المشروع في مناصب رئيسية في إدارته الجديدة.

على رأس هؤلاء، راسل فوت، رجل الإدارة والميزانية، لا يرى نفسه موظفاً حكومياً بل «ترجمان عقل الرئيس» وقد شارك في كتابة فصل في مشروع 2025 حول السلطة الرئاسية. وفي تصريحات مثيرة له قال: «لن ننقذ بلادنا دون بعض المواجهة». إلى جانبه يقف ستيفن ميلر مهندس سياسات الهجرة، صاحب الجملة القاطعة: «أميركا للأميركيين» وهي رؤية بدأت تُترجم إلى سياسات فعلية في قرارات ترمب. كل من فوت وميلر، كما هو واضح، يشتركان مع ترمب في نظرته الصدامية، وإثارة الجلبة، والمواجهة الصاخبة.

الدائرة الثالثة: رجال الأعمال… كفاءة أم مصالح؟

يُحيط دونالد ترمب بعدد من رجال الأعمال والدوائر الاقتصادية، منهم من مول برنامجه السياسي وآخرون لديهم معهم مصالح اقتصادية مشتركة. وفي خطوة جريئة وغير مسبوقة، عين ترمب الملياردير إيلون ماسك ورجل الأعمال فيفيك راماسوامي لقيادة «إدارة كفاءة الحكومة» الجديدة. قرار يعكس رغبة ترمب في إعادة كتابة قواعد اللعبة: الرئيس لا ينتظر موافقة الكونغرس، بل يتحرك كمن يقود شركة عملاقة. لكن هذا الطموح يصطدم بعواصف غضب من المؤسسات التقليدية، التي ترى في هذه التجربة تهديداً لـ«روح الدولة».

تمثل دوائر رجال الأعمال المؤثرة في ترمب مزيجاً من قطاعات الطاقة والمال والتكنولوجيا والعقارات. والنفوذ الذي يُمارسونه، إما عبر التمويل المباشر، أو التأثير غير المباشر من خلال الإعلام والتشريعات الاقتصادية.

الدائرة الرابعة: الموالون السياسيون… وتغيير الجلد

ترمب يجيد فن استقطاب الأضداد. من ماركو روبيو، الذي هاجمه بشراسة عام 2016، ليصبح اليوم وزير خارجيته، إلى بيت هيغسيث، مذيع «فوكس نيوز» الذي يدير البنتاغون كمنصة إعلامية لا كوزارة دفاع.

أما التعيين الأشد إثارة للجدل، فهو روبرت كينيدي جونيور وزيراً للصحة، في تحدٍ صارخ للمؤسسة الطبية الأميركية. ترمب لا يبحث عن خبراء، بل عن «محاربين»، حتى وإن كانوا خارج الصندوق… أو ضده.

الدائرة الخامسة: الإعلام… سلاح لا يصدأ

لم تعد وسائل الإعلام مرآة تعكس الحدث في عهد ترمب، بل شريكاً في صناعته. فوكس نيوز ونيوزماكس تجاوزتا حدود البث لتتحولا إلى غرف عمليات سياسية. الإعلام عند ترمب لا يراقب الدولة، بل يخدم سرديتها.

وجود إعلامية بارزة مثل تاكر كارلسون، وشون هانيتي تلعب دوراً كبيراً في حياة ترمب السياسية، وفي زمن ما بعد التلفاز، يتقدم البودكاست كمنصة سياسية بديلة. أصوات مثل جو روجان ولوجان بول لم تعد مجرد «مؤثرين»، بل أصبحوا «وسطاء رأي»، ينقلون ترمب إلى الجيل Z بطريقة لا يجيدها أي حزب تقليدي.

يتردد كثيراً أن ترمب علّق التعريفات الجمركية التي فرضها على العالم بعد أن شاهد لقاء لبعض رجال الأعمال على شاشة «فوكس نيوز»، وسط تغطية إعلامية صاخبة لردود الفعل السلبية في الأسواق المالية، مما اضطر ترمب إلى التحدث مع مستشاريه، بعد أن أعرب قادة الأعمال والاقتصاديون عن قلقهم من تأثير التعريفات الضار على التجارة والاقتصاد، وخلق ذلك سرداً يوحي بعدم اليقين الاقتصادي.

الدائرة السادسة: مستشارو الظل

وراء الكواليس، يتحرك رجال لا يظهرون في المؤتمرات الصحافية، لكن كلماتهم تُسمع في القرارات المفاجئة. يحيط ترمب نفسه بمجموعة من المستشارين في الظل، يعملون بصمت لصياغة أغلب قراراته الصادمة. ومن هؤلاء ستيفن ميران، وهو العقل الاقتصادي الأول للرئيس ويدعو لتأسيس نظام تجاري واقتصادي عالمي جديد. يأتي بعده كل من هوارد لوتنيك وجون بولسون، وهم من شخصيات وول ستريت، رجال المال والتجارة الذين يصيغون سياسات ترمب بلغة الأرقام والجمارك، لا الخطب. يضاف إليهم أيضاً بيتر نافارو الخبير الاقتصادي ومهندس السياسات الحمائية والتصعيد التجاري مع الصين.

دونالد ترمب، في ولايته الثانية، لم يعد يُخفي معالم مشروعه. إنه لا يحكم بأدوات الدولة بل يعيد تشكيلها. يتحرك كمن يعلن أن «أميركا القديمة» لم تعد موجودة، وأن الزمن هو زمن القائد – لا المؤسسة.

تحولات ترمب ليست إلا مرآة لأميركا، وتعبير عن تحولات عميقة داخل المجتمع الأميركي، حيث تتصارع النخب القديمة مع تحالفات جديدة تجمع بين المال والسياسة والدين. وتنتقل من الاعتماد على المؤسسات التقليدية إلى الولاءات الشخصية، ومن التوازن بين السلطات إلى تركيز السلطة في يد الرئيس.

في حقبة ترمب الثانية، لم تعد السياسة الأميركية تُصنع في دوائر الحكم المعلنة، بل في مطبخ المصالح المتشابكة… وترمب، بجرأته وشخصيته المتفردة، حوّل هذا المطبخ إلى مصنع كبير. لكن السؤال الذي يظل معلقاً كخيط عنكبوت في غرفة القرار: هل هذه الخيوط محكمة كفاية لتبني بيتاً جديداً، أم أنها ستقع عند أول هبة ريح من الدولة العميقة؟

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *